فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{والليل إِذَا يغشى}
أي حينَ يغشى الشمسَ كقولِه تعالى: {واليل إِذَا يغشاها} أو النهارَ أو كلَّ ما يواريِه بظلامِه {والنهار إِذَا تجلى} ظهرَ بزوالِ ظلمةِ الليل أو تبينَ وتكشفَ بطلوعِ الشمسِ {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} أي والقادرِ العظيمِ القدرةِ الذي خلقَ صنفيَّ الذكرِ والأنثى من كلِّ ما لَهُ توالدٌ وقيلَ: هُما آدمُ وحواءُ وقُرئ {والذكرِ والأنثى} وقُرئ {وَالذي خلقَ الذكرَ والأنثى} وقيلَ: مَا مصدريةٌ {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} جوابُ القسمِ وشَتَّى جمع شتيتٍ أي أنَّ مساعيَكُم لأشتاتٍ مختلفةٍ وقولُه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى} إلخ تفصيلٌ لتلك المساعِي المشتتةِ وتبيينٌ لأحكامِها أي فأمَّا {من أعطَى} حقوقَ مالِه {واتقى} محارمَ الله تعالى التي نهىَ عنها وصدَّق بالخصلةِ الحُسْنى وهي الإيمانُ أو بالكلمةِ الحُسْنى وهي كلمةُ التوحيدِ أو بالملةِ الحُسْنى وهي ملةُ الإسلامُ أو بالمثوبةِ الحُسْنى وهي الجنةُ {فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى} فسنهيئُه للخصلةِ التي تؤدِي إلى يُسرٍ وراحةٍ كدخولِ الجنةِ ومباديِه من يسرَ الفرسَ للركوبِ إذا أسرجَها وألجمَها {وَأَمَّا مَن بَخِلَ} أي بمالِه فلم يبذلْه في سبيلِ الخيرِ {واستغنى} أي زهدَ فيما عنده تعالى كأنَّه مستغنٍ عنْهُ فلم يتَّقِهِ أو استغنى بشهواتِ الدُّنيا عن نعيمِ الآخرةِ.
{وَكَذَّبَ بالحسنى} أي ما ذكرَ من المعانِي المتلازمِة {فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى} أي للخصلةِ المؤديةِ إلى العسرِ والشدةِ كدخولِ النارِ ومقدماتِه لاختيارِه لَها ولعلَّ تصديرَ القسمينِ بالإعطاءِ والبخلِ مع أنَّ كلاً منهما أدْنى رتبةً مما بعدهُما في استتباعِ التيسيرِ لليسرى والتيسير للعسرى للإيذانِ بأنَّ كلاً منهما أصلٌ فيما ذكَر لا تتمةٌ لما بعدهُما من التصديقِ والتَّقوى والتكذيبِ والاستغناءِ وتفسيرُ الأولِ بإعطاءِ الطاعةِ والثاني بالبخلِ بما أمرَ مع كونِه خلافَ الظاهرِ يأباهُ قوله تعالى: {وَمَا يُغْنِى عَنْهُ} أيْ ولا يُغنِي أو أيُّ شيءٍ يُغني عنْهُ {مَالَهُ} الذي يبخلُ به {إِذَا تردى} أي هلكَ تفعَّلَ من الرَّدَى الذي هو الهلاكُ أو تردى في الحفرةِ إذا قُبرَ أو تردى في قعرِ جهنمَ {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} استئنافٌ مقررٌ لما قلَه أي إنَّ علينا بموجبِ قضائِنا المبنيِّ على الحكمِ البالغةِ حيث خلقنَا الخلقَ للعبادةِ أن نبينَ لهم طريقَ الهُدى وما يؤدِّي إليهِ من طريقِ الضلالِ وما يؤدِّي إليه وقد فعلنَا ذلكَ بما لا مزيدَ عليهِ حيثُ بيَّنا حالَ من سلكَ كلا الطريقينِ ترغيباً وترهيباً ومن هاهنا تبينَ أنَّ الهدايةَ هي الدلالةُ على ما يوصلُ إلى البغيةِ لا الدلالةُ الموصلةُ إليها قطعاً {وَإِنَّ لَنَا لَلأَخِرَةَ والأولى} أي التصرفَ الكليَّ فيهما كيفما نشاءُ فنفعلُ فيهما ما نشاءُ من الأفعالِ التي من جُملتها ما وعدنَا من التيسيرِ لليسرى والتيسيرِ للعسرى وقيلَ: إن لنا كلَّ ما في الدُّنيا والآخرةِ فلا يضرنا تركُكُم الاهتداءَ بهدانَا {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} بحذفِ إحدى التاءينِ من {تتلظى} أي تتلهبُ وقرئ على الأصلِ {لاَ يصلاها} صلياً لازماً {إِلاَّ الأشقى} إلا الكافرُ فإنَّ الفاسقَ لا يصلاهَا صلياً لازماً وقد صرَّحَ به قولُه تعالى: {الذى كَذَّبَ وتولى} أي كذَّبَ بالحقِّ وأعرضَ عن الطاعةِ.
{وَسَيُجَنَّبُهَا} أي سَيُبعدُ عنْها {الأتقى} المبالغُ في اتقاءِ الكفرِ والمعاصِي فلا يحومُ حولَها فضلاً عن دخولِها أو صليِها الأبديِّ وأما من دُونَهُ ممن يتقي الكفرَ دُونَ المعاصِي فلا يُبعد عنْها هذا التبعيدَ وذلكَ لا يستلزمُ صليها بالمَعْنى المذكورِ فلا يقدحُ في الحصرِ السابقِ {الذى يُؤْتِى مَالَهُ} يُعْطيه ويصرفُهُ في وجوهِ البرِّ والحسناتِ وقولُه تعالى: {يتزكى} إما بدلٌ من يُؤتِي داخلٌ في حكمِ الصلةِ لا محلَّ لهُ أو في حيز النصبِ على أنه حالٌ من ضميرِ {يُؤتِي} أي يطلبُ أن يكونَ عند الله تعالى زاكياً نامياً لا يريدُ بهِ رياءً ولا سمعةً.
{وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى} استئنافٌ مقررٌ لكونِ إيتائِه للتزكِّي خالصاً لوجهِ الله تعالى أي ليسَ لأحد عنده نعمةٌ من شأنِها أنْ تجزى وتكافأَ فيقصدَ بإيتاءِ ما يُؤتى مجازاتِها وقولُه تعالى: {إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى} استثناءٌ منقطعٌ من نعمةٍ وقُرِئ بالرفعِ على البدلِ من محلِّ نعمةٍ فإنَّه الرفعُ إما على الفاعلية أو على الابتداءِ ومِنْ مزيدةٌ ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً لهُ لأنَّ المَعْنى لا يُؤتِي مالَه إلا ابتغاءَ وجهِ ربِّه لا لمكافأةِ نعمةٍ والآياتُ نزلتْ في حقِّ أبِي بكرٍ الصديقِ رضيَ الله عنه حينَ اشترَى بلالاً في جماعةٍ كان يؤذيهم المشركونَ فأعتقُهم ولذلكَ قالُوا: المرادُ بـ: {الأشقى} أبُو جهلٍ أو أميةُ بنُ خلفٍ وقد رَوَى عطاءٌ والضحاكُ عن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا أنه عذَّبَ المشركونَ بلالاً وبلالٌ يقولُ: أحد أحد فمرَّ به النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ فقالَ: «أحد- يعني الله تعالى- ينجيكَ» ثم قالَ لأبي بكرٍ رضي الله عنه: «إنَّ بلالاً يعذبُ في الله» فعرفَ مرادَهُ عليه الصلاةُ والسلامُ فانصرفَ إلى منزلِه فأخذ رطلاً من ذهبٍ ومَضَى به إلى أميةَ بنِ خلفٍ فقالَ له: أتبيعُنِي بلالاً؟ قالَ: نعَم، فاشتراهُ فأعتقَهُ فقالَ المشركونَ: ما أعتقَهُ أبُو بكرٍ إلا ليدٍ كانتْ له عندَهُ فنزلتْ وقولُه تعالى: {وَلَسَوْفَ يرضى} جوابُ قسمٍ مضمرٍ أيْ وبالله لسوفَ يرضى وهو وعدٌ كريمٌ بنيلِ جميعَ ما يبتغيهِ على أكملِ الوجوهِ وأجملِها إذْ بهِ يتحققُ الرِّضَا وقُرِئ {يرضى} مبنياً للمفعولِ من الإرضاءِ. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {واليل إِذَا يغشى}
أقسم الله تعالى بالليل، إذا غشيت ظلمته ضوء النهار.
ويقال: أقسم بخالق الليل إذا يغشى، يعني: يغشى الليل ضوء النهار {والنهار إِذَا تجلى} يعني: أقسم بالنهار إذا استنار، وتجلى عن الظلمة {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} يعني: والذي خلق الذكر والأنثى، يعني: آدم وحواء.
وقال القتبي: ما ومن أصلهما واحد، وجعل من للناس، وما لغير الناس.
ويقال: من مَرّ بك من الناس، وما مَرّ بك من الإبل.
وقال أبو عبيد: وما خلق، أي: وما خلق، وكذلك قوله: {والسماء وَمَا بناها} [الشمس: 5] {وَنَفْسٍ وَمَا سواها} [الشمس: 7] {وما} في هذه المواضع بمعنى (من) وقال أبو عبيد: وما بمعنى من وبمعنى الذي.
وروي عن ابن مسعود، أنه كان يقرأ {والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى} وروى الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال: أفيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود؟ فأشاروا إلى، فقلت: نعم أنا.
فقال: كيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية؟
قلت: سمعته يقرأ {والذكر والأنثى}.
قال: أنا هكذا والله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأها، وهؤلاء يريدونني على أن أقرأها كلا أنا معهم.
ثم قال عز وجل: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} فهذا موضع جواب القسم، أقسم الله تعالى بخالق هذه الأشياء، {إن سعيكم لشتى}، يعني: أديانكم ومذاهبكم مختلفة، يعني: عملكم مختلف.
عامل للجنة، وعامل للنار.
وقال أبو الليث رحمه الله: حدّثنا أبو جعفر، حدّثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن سهل القاضي قال: أخبرنا حدّثنا أحمد بن جرير، قال حدّثنا أبو عبد الرحمن راشد بن إسماعيل، عن منصور بن مزاحم، عن يونس بن إسحاق، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن أبا بكر رضي الله عنه، اشترى بلالاً من أمية بن خلف، وأبي بن خلف ببروة وعشرة أواق من فضة، فأعتقه لله تعالى، فأنزل الله تعالى: {واليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} يعني: سعي أبي بكر، وأمية بن خلف.
{فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى} يعني: بلا إله إلا الله، يعني: أبا بكر {فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى} يعني: الجنة {وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى} يعني: بلا إله إلا الله {فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى} يعني: أمية، وأبي ابني خلف إذا ماتا.
ويقال: لنزول هذه الآية سبب آخر، كان رجل من الكفار له نخلة في دار، وشعبها في دار رجل آخر من المسلمين، وكان إذا سقطت ثمرة في دار المسلم، نادى الكافر: حرام حرام، وكان المسلم يأخذ الثمرة، فيرمي بها في دار الكافر، لئلا يأكل ذلك صبيانه فسقطت يوماً ثمرة، فأخذها ابن صغير للمسلم، فجعلها في فيه، فدخل الكافر، فأخرج الثمرة من فيه، وأبكى الصبي.
فشكى المسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا المشرك فقال: «أتبيع نخلتك ليعطيك الله أفضل منها في الجنة»، فقال: لا أبيع العاجل بالآجل، فسمع رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاشترى النخلة من الكافر، وتصدق بها على المسلم.
فنزلت {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} يعني: أعطى من ماله حق الله تعالى، واتقى الشرك، وسخط الله تعالى، {وَصَدَّقَ بالحسنى}.
يعني: بثواب الله في الجنة {فَسَنُيَسّرُهُ} يعني: سنعينه ونوفقه {لليسرى} يعني: لعمل أهل الجنة {وَأَمَّا مَن بَخِلَ} بالصدقة {واستغنى} يعني: رأى نفسه مستغنياً عن ثواب الله، وعن جنته {وَكَذَّبَ بالحسنى} يعني: بالثواب وهو الجنة {فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى} يعني: نخذله ولا نوفقه للطاعة، فسنيسر عليه طريق المعصية {وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى} {وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} يعني: ما ينفعه ماله، إذا مات وتركه في الدنيا، وهو يرد إلى النار.
ثم قال عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} يعني: علينا بيان الهدى، ويقال: علينا التوفيق للهدى من كان أهلاً لذلك {وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ والأولى} يعني: الدنيا والآخرة لله تعالى، يعطي منها من يشاء ويقال: معناه إلى الله تعالى ثواب الدنيا والآخرة.
ويقال: وإن لنا للآخرة والأولى، يعني: لله تعالى نفاذ الأمر في الدنيا والآخرة، يعطي في الدنيا المغفرة، والتوفيق للطاعة، وفي الآخرة الحسنة والثواب.
ثم قال: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} يعني: خوفتكم بالقرآن {ناراً تلظى}، يعني: تثقل على أهلها، وتغيظ على أهلها، وتزفر عليهم.
قوله عز وجل: {لاَ يصلاها} يعني: لا يدخل في النار {إِلاَّ الأشقى} يعني: الذي ختم له بالشقاوة {الذى كَذَّبَ وتولى} يعني: كذب بالتوحيد، وتولى عن الإيمان، وعن طاعة الله تعالى، وأخذ في طاعة الشيطان.
ثم قال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} يعني: يباعد عنها {الأتقى}، يعني: المتقي الذي يتقي الشرك وهو {الذى يُؤْتِى مَالَهُ يتزكى} يعني: يعطي من ماله حق الله تعالى: {يتزكى} يعني: يريد به وجه الله تعالى.
ثم قال: {وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى} يعني: لا يفعل ذلك مجازاة لأحد {إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى} ولكن يفعل ذلك وجه ابتغاء ربه الأعلى، يفعل ذلك طلب رضاء الله تعالى الأعلى، يعني: الله العلي الكبير، الرفيع فوق خلقه، بالقهر والغلبة.
{وَلَسَوْفَ يرضى} يعني: سوف يعطي الله من الثواب، حتى يرضى بذلك.
وقال مقاتل: مر أبو بكر على بلال، وسيده أمية بن خلف يعذبه، فاشتراه وأعتقه، فكره أبو قحافة عتقه، فقال لأبي بكر: أما علمت أن مولى القوم من أنفسهم، فإذا أعتقت فأعتق من له منظرة وقوة، فنزل {وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى} يعني: لا يعقل لطلب المجازاة، ولكن إنما يعطي ما له {ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى} بثواب الله تعالى، والله أعلم بالصواب. اهـ.

.قال الثعلبي:

سورة الليل:
{والليل إِذَا يغشى}
النهار فيذهب بضوءه {والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} يعني ومن خلق.
أخبرنا محمد بن نعيم قال: أخبرنا الحسين بن أيوب قال: حدّثنا على بن عبد العزيز قال: أخبرنا أبو عبيد قال: حدّثنا حجاج، عن هارون، عن إسماعيل، عن الحسن: أنه كان يقرأ: {وما خلق الذكر والأنثى}، فيقول: والذي خلق، قال هارون قال أبو عمر وأهل مكة: يقول للرعد: سبحان ما سبّحت له.
وقيل: {وخلق الذكر والأنثى}، وذكر أنّها في قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء: {والذكر والأنثى}.
أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: أخبرنا عبد الله بن هاشم قال: حدّثنا أبو معونة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قدمنا الشام، فأتانا أبو الدرداء، فقال: أمنكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله؟ قال: فأشاروا إلى، فقلت: نعم أنا، فقال: فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية، {والليل إِذَا يغشى}؟ قال: قلت: سمعته يقرأها {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى}.
قال لنا: والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها وهؤلاء يريدونني أن أقرأ {وَمَا خَلَقَ} فلا أُتابعهم.
{إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} إنّ عملكم لمختلف وقال عكرمة وسائر المفسرين: السعي: العمل، فساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها، يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «والناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها».
{فَأَمَّا مَنْ أعطى} ماله في سبيل الله {واتقى} ربّه واجتنب محارمه {وَصَدَّقَ بالحسنى} اي بالخلف أيقن بأن الله سبحانه سيخلف هذه، وهذه رواية عكرمة وشهر بن حوشب، عن ابن عباس، يدلّ عليه ما أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم، عن محمد بن جرير قال: حدّثني الحسن بن أبي سلمة بن أبي كبشة قال: حدّثنا عبد الملك بن عمرو قال: حدّثنا عباد بن راشد، عن قتادة قال: حدّثنا خليل العصري، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم غربت شمسه إلاّ وبعث بجنبتها ملكان يناديان، يسمعهما خلق الله تعالى كلهم إلاّ الثقلين، اللهم أعطِ منفقاً خلفا وأعطِ ممسكاً تلفاً، فأنزل في ذلك القرآن، فأما من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى الى قوله للعسرى».
وقال أبو عبد الرحمن السلمي والضحّاك: {وصدّق بالحسنى}، بـ: (لا إله إلاّ الله). وهي رواية عطية، عن ابن عباس.
وقال مجاهد: بالجنة، ودليله قوله سبحانه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقال قتادة ومقاتل والكلبي: بموعود الله الذي وعده أن يثيبه.
{فَسَنُيَسِّرُهُ} فسنهيّئه في الدنيا، تقول العرب: يسّرت غنم فلان إذا ولدت أو تهيّأت للولادة، قال الشاعر:
هما سيدانا يزعمان وإنما ** يسوداننا إن يسّرت غنماهما

{لليسرى} للخلّة اليسرى، وهي العمل بما يرضاه الله سبحانه، وقيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
{وَأَمَّا مَن بَخِلَ} بالنفقه في الخير {واستغنى} عن ربّه فلم يرغب في ثوابه {وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} أي للعمل بما لا يرضى الله حتى يستوجب به النار، فكأنه قال: نخذله ونؤذيه إلى الأمرّ العسير، وهو العذاب.
وقيل: سندخله جهنم، والعسرى اسم لها.
فإن قيل: فأي تيسير في العسرى؟ قيل: إذا جمع بين كلامين أحدهما ذكر الخير والآخر ذكر الشر جاز ذلك، كقوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] [التوبة: 34] [الانشقاق: 24].
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان قال: حدّثنا ابن ماهان محمد بن صي قال: حدّثنا شعبة، عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فأخذ عوداً فجعل ينكث في الأرض، فقال: ما منكم من أحد إلاّ قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار. فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكّل؟ فقال: اعملوا فكلٌّ ميسّر، ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} الآيات».
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} قال مجاهد: مات، وقال قتادة وأبو صالح: هو لحد في جهنم، قال الكلبي: نزلت في أبي سفيان بن حرب.
{إِنَّ عَلَيْنَا للهدى} أي بيان الحق من الباطل، وقال الفرّاء: يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله، كقوله سبحانه: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} [النحل: 9]، يقول: من أراد الله فهو على السبيل القاصد.
وقيل: معناه: إنّ علينا للهدى والإضلال، كقوله: بيدك الخير وسرابيل تقيكم الحر.
{وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى} فمن طلبها من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق.
{فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} تتوقد وتتوهج.
وقرأ عبيد بن عمير {تتلظى} على الأصل، وغيره على الحذف {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى الذي كَذَّبَ وتولى} قرأ أبو هريرة: ليدخلنّ الجنة إلاّ من يأبى، قالوا: يا أبا هريرة، ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ فقرأ قوله سبحانه: {الذي كَذَّبَ وتولى}.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا برهان بن على الصوفي قال: حدّثنا أبو خليفة قال: حدّثنا القعبني قال: حدّثنا مالك قال: صلّى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب، فقرأ فيها {والليل إِذَا يغشى}، فلمّا أتى على هذه الآية {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى} وقع عليه البكاء فلم يقدر أن يتعدّاها من البكاء. وقرأ سورة أُخرى.
{وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى الذي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} قال أهل المعاني: أراد الشقي والتقي، كقول طرفة:
تمنى رجال أن أموت، فإن أمت ** فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي بواحد.
أخبرني الحسين قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن على قال: حدّثنا عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الله المقري قال: حدّثنا جدّي قال: حدّثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن سالم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن يوسف قال: حدّثنا ابن عمران قال: حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال: حدّثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنّ أبا بكر رضي الله عنه اعتق من كان يعذّب في الله: بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وبنتها وزنيرة وأم عميس وأمة بني المؤمّل.
فأما زنيرة فكانت رومية وكانت لبني عبد الدار، فلمّا أسلمت عميت، فقالوا: أعمتها اللاتِ والعزى.
فقالت: هي تكفر باللات والعزى، فردّ الله إليها بصرها، ومرّ أبو بكر بها وهي تطحن وسيّدتها تقول: والله لا أعتقك حتى يعتقك صُباتك، فقال أبو بكر فحلى إذاً يا أم فلان فبكمْ هي إذاً؟ قالت: بكذا وكذا أوقية، قال: قد أخذتها، قومي، قالت: حتى أفرغ من طحني.
وأما بلال فاشتراه، وهو مدفون بالحجارة، فقالوا: لو أبيت إلاّ أوقية واحدة لبعناك، فقال أبو بكر: لو أبيتم إلاّ مائة أوقية لأخذته، وفيه نزلت يعني أبا بكر، {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى الذي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} إلى آخرها، وأسلم وله أربعون ألفاً فأنفقها كلّها، يعني أبا بكر.
وأنبأني عبد الله بن حامد قال: أخبرني أبو سعيد الحسن بن أحمد بن جعفر اليزدي قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن أبي عبد الرحمن المقري قال: حدّثنا سفيان، عن عتبة قال: حدّثني من سمع ابن الزبير على المنبر وهو يقول: كان أبو بكر يبتاع الضعفة فيعتقهم، فقال له أبوه: يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، قال: إنما أريد ما أُريد فنزلت فيه {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى الذي يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} إلى آخر السورة، وكان اسمه عبد الله بن عثمان.
عن عطاء، عن ابن عباس، في هذه الآية «أن بلالا لما أسلم ذهب إلى الأصنام فسلح عليها، وكان المشركون وكلوا امراة تحفظ الأصنام، فأخبرتهم المرأة، وكان بلال عبداً لعبد الله ابن جدعان، فشكوا إليه، فوهبه لهم ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء، وهو يقول: أحداً أحد، فمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ينجيك أحد أحد، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن بلالا يعذَّب في الله، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب فابتاعه به».
وقال سعيد بن المسيب: بلغني أن أُمية بن خلف قال لإبي بكر حين قال له أبو بكر: أتبيعه؟ قال: نعم أبيعه بنسطاس، وكان نسطاس عبداً لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري ومواشي، وكان مشركاً وحمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون له ماله، فأبى فأبغضه أبو بكر، فلمّا قال له أُمية: أتبيعه بغلامك نسطاس؟ اغتنمه أبو بكر وباعه به، فقال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك لبلال إلاّ ليد كانت لبلال عنده، فأنزل الله سبحانه: {وَمَا لأحد عِندَهُ} من أُولئك الذين أعتقهم {مِن نِّعْمَةٍ تجزى} يد نكافئه عليها {إِلاَّ} لكن {ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى} بثواب الله في العقبى عوضاً مما فعل في الدنيا.
وأخبرنا أبو القاسم يعقوب بن أحمد بن السري العروضي في درب الحاجب قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله العماني الحفيد قال: حدّثنا أحمد بن نصر بن خفيف القلانسي الرقّاء قال: حدّثنا محمد بن جعفر بن سوّار بن سنان في سنة خمس وثمانين ومائتين قال: حدّثنا على ابن حجر، عن إسحاق بن نجح، عن عطاء قال: كان لرجل من الأنصار نخلة، وكان له جار، فكان يسقط من بلحها في دار جاره، فكان صبيانه يتناولون، فشكا ذلك الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي عليه السلام «بعنيها بنخلة في الجنة»، فأبى قال: فخرج، فلقيه أبو الدحداح، فقال: هل لك أن تبيعها بجبس؟ يعني حائطاً له، فقال: هي لك، قال: فأتى النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله اشترها منّي بنخلة في الجنة، قال: «نعم»، قال: هي لك، فدعا النبي عليه السلام جار الأنصاري، فأخدها، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {والليل إِذَا يغشى} إلى قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} أبو الدحداح والأنصاري صاحب النخلة.
{فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} أبو الدحداح {وَصَدَّقَ بالحسنى} يعني الثواب {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} يعني الجنة.
{وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى} يعني الأنصاري {وَكَذَّبَ بالحسنى} يعني الثواب {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} يعني النار، {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} يعني به إذا مات كما في قوله: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى} صاحب النخلة {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} يعني أبا الدحداح {الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى} يعني أبا الدحداح {وَمَا لأحد عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى} يكافئه بها، يعني أبا الدحداح {إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى وَلَسَوْفَ يرضى} إذا أدخله الجنة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بذلك بجبس وعذوقه دانية، فيقول: «عذوق وعذوق لأبي الدحداح في الجنة». اهـ.